بعد ما نزل جبريل -عليه السلام- على النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء وما أصابته من رجفة ورعدة جعلته يهرول إلى خديجة بأن تزمله وما تكرر معه بعد ذلك، أيقن النبي بأنه هو النبي الذي شاء الله له أن يكون في بيئة تسوّرها الجاهلية العمياء وتلونها بكل مال فيها.
جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- نوراً لهذا الوجود الكبير الذي أطفأت شعلته جاهلية مقيتة هجينة، غيرت وحرفت مساره بعيداً عن الصواب، فحار الإنسان ينشد الحقيقة في حجر لا يضر ولا ينفع، فكان النبي بمثابة البوصلة التي ستصحح مسارهم وتردهم عن جحودهم، ويعيد الدهر كأول عهده، حيث توحيد الله يأمّ الكون كله ويطربه فيحييه.
أبو بكر الصديق
بدأ النبي يأخذ منحىً لدعوته، إذ أمره الله بتبيلغ الدعوة فبدأ أول من بدأ به أبو بكر الصديق الذي ما سمّي صديقاً إلا لكثرة تصديقه للنبي -صلى الله عليه وسلم- كما كان في حادثة الإسراء والمعراج، حيث جائته قريش لتخبره الخبر، فقال إن كان قال ذلك فقد صدق، فلما بلغ النبي ذلك سمّاه بالصدّيق.
احتاج النبي في أولى الخطى إلى هذا الدعم النفسي العميق، فهو وحده في وجه قريش التي يعرف الجميع ما قد تفعله إن كان الأمر قد انتشر بظهور نبي جديد ودين جديد، ويصدق هذا ما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله"، إنه أول الناس إسلامًا، وقد أسلم أهل بيت أبي بكر بإسلامه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين".
لهذا كله كانت الحاجة إلى أبي بكر أشد ما تكون في هذه اللحظة الفاصلة المهمة، وما أن قام بدعوة الصديق إلى دعوته حتى آمن دون أي يتردد، كما قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت فيه كبوة إلا أبي بكر"، و قد كان قد آمن قبله عليّ من الصبية وعمره عشر سنوات.
وكانت قد آمنت خديجة من النساء، وما كان لها دور مهم في الدعوة لما اشتهرت به من الفطنة والذكاء، فهي صاحبة مشورة ونصح ينشد رأيها التي ما نزل عليه جبريل حتى هرع إليه لتهدئ من روعه، ثم ما عرضته على النبي بالذهاب إلى ورقة بن نوفل الذي مازال على بقية ما بقي في الجزيرة من دين إبراهيم -عليه السلام-، لذلك ما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن أجاب مشورتها فذهبا إليه فأخبره بأنه نبي آخر الزمان، وأن قومه سيصدون عنه ويؤذونه، وما سيلحق ذلك من خروجه إلى مكة، وقد حدث ذلك كله وتحقق.
لهذا كله كان أبو بكر وخديجة ركيزتين مهمتين، بل من أهم الركائز التي ثبتت النبي وشرحت صدره في دعوته، ثم أخذ النبي يدعو بأهله وأقاربه يسانده، ويشد أبو بكر من عضده الذي دعا أهله فأجابوه وكان له فضل كبير في إسلام الكثيرين من العبيد والموالي كعثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وغيرهم الكثير، وكان أبو بكر صاحبَ تجارة رابحة ومالٍ كثير، فقدمه كله في سبيل الله وفداءً للكثير من العبيد الذين أسلموا ومازالوا أرقاء، كما في قصة بلال بن رباح بعد أن فداه واشتراه ثم أعتقه لوجه الله.
ثم أخذت الدعوة تتّسع شيئاً فشيئاً في مرحلتها الأولى التي استمرت ثلاث سنوات وما عاناه خلالها النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته وأهله من الأذى والمكر والكيد، ثم بعد انقضاء ثلاث سنوات أمر الله نبيه محمداً بأن يصدع بالدعوة بعد تمكنها من قلوب رجال كانوا أشد ثباتاً من الجبال الراسيات، وقد اختارهم الله لحمل هذه الدعوة المباركة ليصدحوا بها في آفاق الوجود الرحبة، ويفتحون بها كل قلب غلف تغلق، حتى غدت راية لا إله إلا الله تصدح ملوّحة فوق أرجاء الكون كله.
إقرأ أيضا : أول من أسلم من الصبيان
فضل أبي بكر الصديق
يعد أبو بكر الصديق سيق هذه الأمة في دخول الإسلام والعمل له ولأهله، فهو رجل من أشراف قريش وساداتها له هيبته وكلمته، فهو أول من آمن ودفع عن النبي الأذى وهاجر معه ورافقه، وقدم ماله كله فداء للدعوة، فكان يقوم على الأرامل والفقراء والضعفاء من السّباقين إلى كل خير، حتى روى عنه عمر رضي الله عنه، أنه ما همّ بعمل إلاّ كان أبو بكر أسبقه.
وهو أول خليفة بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأول من قام بجمع القرآن في كتاب واحد سماه المصحف، إيمانه يعدل إيمان الأمة كلها بل إن فضله على هذه الأمة يعدل فضل الشمس على سائر الكواكب، وإن الله يوم القيامة يخيره من أي باب من أبواب الجنة شاء، وهو ثاني رجل يدخل الجنة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد دفن في حجرة عائشة التي دفن بها النبي وعمر من بعدهما، نعم الصاحب والرفيق والناصح للنبي -صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه وأرضاه.
