أبو العلاء المعري
-تعب كلها الحياة
إن من روائع قصائد العرب هي قصيدة أبو العلاء المعري التالية الفلسفية ، والتي تصف أصل الوجود ومغازيه الظاهرة والخفية :
غَـيْرُ مُـجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي نَــوْحُ بـاكٍ ولا تَـرَنّمُ شـادِ
وشَـبِيهٌ صَـوْتُ الـنّعيّ إذا قِيسَ بِـصَوْتِ الـبَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَـكَتْ تِـلْكُمُ الـحَمَامَةُ أمْ غَنَّـت عَـلى فَـرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
ويتابع قوله بسحر ما بعده سحر في الوصف :
صَـاحِ هَـذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْبَ فـأينَ الـقُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَـفّفِ الـوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الأرْضِ إلاّ مِـنْ هَـذِهِ الأجْـسادِ
وقَـبيحٌ بـنَا وإنْ قَـدُمَ الـعَهْدُ هَــوَانُ الآبَـاءِ والأجْـدادِ
إلى أن يقول :
سِـرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً لا اخْـتِيالاً عَـلى رُفَـاتِ العِبادِ
رُبّ لَـحْدٍ قَـدْ صَارَ لَحْداً مراراً ضَـاحِكٍ مِـنْ تَـزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِـيـنٍ عَـلى بَـقايا دَفِـينٍ فـي طَـويلِ الأزْمـانِ وَالآبـاءِ
ثم يضيف بقوله :
فـاسْألِ الـفَرْقَدَينِ عَـمّنْ أحَسّا مِـنْ قَـبيلٍ وآنـسا مـن بلادِ
كَـمْ أقـامَا عـلى زَوالِ نَـهارٍ وَأنــارا لِـمُدْلِجٍ فـي سَـوَادِ
تَـعَبُ كُـلّها الـحَياةُ فَـما أعْجَـبُ إلاّ مِـنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُـزْناً فـي ساعةِ المَوْتِ أضْعَافُ سُـرُورٍ فـي سـاعَةِ الـميلادِ
إلى أن يبوح بالتالي :
خُـلِقَ الـنّاسُ لـلبَقَاءِ فضَلّتْ أُمّــةٌ يَـحْـسَبُونَهُمْ لـلنّفادِ
إنّـما يُـنْقَلُونَ مِـنْ دارِ أعْـمالٍ إلــى دارِ شِـقْوَةٍ أو رَشَـادِ
ضَـجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الجِـسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
كـيفَ أصْبَحتَ في مَحلّكَ بعدي يـا جَـديراً مـنّي بحُسْنِ افتِقادِ
قـد أقَـرّ الـطّبيبُ عَنْكَ بِعَجْزٍ وتَـقَـضّى تَــرَدّدُ الـعُـوّادِ
وَانْتَهَى اليأسُ مِنكَ وَاستشعَرَ الوَجْدُ بـأنْ لا مَـعادَ حـتى الـمعادِ
هَـجَدَ الـسّاهرُونَ حَوْلَكَ للتمْريـضِ وَيـحٌ لأعْـيُنِ الـهُجّادِ
ثم يعلن فلسفته قائلا :
أنـتَ مِن أُسْرةٍ مَضَوْا غَيرَ مَغْرُوريـنَ مِـنْ عَـيشَةٍ بِذاتِ ضِمادِ
فَـعَزيزٌ عَـليّ خَـلْطُ الـلّيالي رِمَّ أقـدامِـكُمْ بِـرِمّ الـهَوَادي
كُـنتَ خِـلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ البَـينَ وَافَـقْتَ رأيَـهُ فـي المُرادِ
ورأيـتَ الـوَفاءَ للصّاحِبِ الأوَّلِ مِـنْ شـيمَةِ الـكَريمِ الجَوادِ
وَخَـلَعْتَ الـشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْتَــكَ أَبْـلَـيْتَهُ مَـعَ الأنْـدادِ
فـاذْهَبا خـير ذاهـبَينِ حقيقَيْن بِـسُـقْيا رَوائِــحٍ وَغَـوَادِ
وهنا يقول حكته في الحياة :
ومَــراثٍ لَـوْ أنّـهُنّ دُمُـوعٌ لـمَحَوْنَ الـسّطُورَ فـي الإنْشادِ
والـفَتَى ظاعِنٌ ويَكفيهِ ظِلُّ السَّـدْرِ ضَرْبَ الأطْنابِ والأوْتادِ
بـانَ أمْـرُ الإلَـهِ واختَلَفَ النّاسُ فَـداعٍ إلـى ضَـلالٍ وَهَـادِ
والّـذي حـارَتِ الـبَرِيّةُ فِـيهِ حَـيَوَانٌ مُـسْتَحْدَثٌ مِـن جَمادِ
والـلّبيبُ الـلّبيبُ مَنْ لَيسَ يَغْترُّ بِـكُـوْنٍ مَـصـيرُهُ لـلفَسادِ
وبذلك ينهي بوح قلبه وعقله وروحه . لكم وددت لو طالت أبيات هذه القصيدة ، فكل بيت فيها يعدل رواية كاملة ، وكل بيت فيها فلسفة كاملة بحد ذاته ، فصدق من قال أن أبا العلاء من أشهر فلاسفة الأرض على مر العصور .