هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة فراراً بدينهم من الكفر ، وعندما وصلوا إلى المدينة أسّسوا دولتهم وثبتّوا أركانها ، ثمّ بعد ذلك أذن لهم بقتال الكفار ، فقاتلوهم وخاضوا معهم معارك كثيرة حتى مكّن الله لعباده المؤمنين وفتحوا مكّه ، وعند ذلك قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا " ، فذهبت الهجرة لأهلها ، وإن بقت بعض صور الهجرة المكانية فضلاً عن وجودها كهجرةٌ معنويةٌ ، وقد بيّن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أن الهجرة متعلقةٌ بالنّوايا فمن كانت هجرته إلى الله والرّسول فهجرته إلى ما هاجر إليه ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةً يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه .
وقد أجاز الإسلام لمن كان في دار الكفر والفساد أن يخرج منها مهاجراً الى الله ورسوله بل إنّه أوجب ذلك في حقّه ، لأن حفظ دين المسلم من مقاصد الشّريعة الغراء ، فلا حجّة لأحد أن يقيم بين أظهر المشركين حتى لا يفتن في دينه ، فهو مأمورٌ بالهجرة إلى أي بلدٍ يستطيع فيها إظهار دينه والإنكار على أهل الباطل ، وهناك هجرةٌ مستحبةٌ أو مندوبةٌ لمن كان في مكان يكثر فيه الفساد ولكنّه كان متمكنٌ من إظهار دينه ، فيستحب له الهجرة حفظاً لالتزامه وسلامة منهجه .
والهجرة التي رّكز الإسلام عليها هي الهجرة بمعناها الأخلاقي العملي وهي أن يهجر المسلم المعاصي والذّنوب ويبتعد عن كل ما نهى الله تعالى عنه ، فالمهاجر كما وصفه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو الذي هجر ما نهى الله عنه وابتعد عن كلّ ما يغضب الله سبحانه وتعالى ، فترى المسلم يبتعد عن أماكن اللّهو والفساد ولا يقربها فضلاً عن ابتعاده عن المفسدين وهو حريصٌ على ملازمة المؤمنين الصّادقين الملتزمين وفي الحديث " لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يكل طعامك إلا تقي " ، وقد نهى الإسلام أن يهجر المسلم أخاه المسلم فوق ثلاث ليالٍ فيفترقان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما من يبدأ بالسّلام ، و في المقابل فإنّ المؤمن مطلوب منه الإعراض عن الجاهلين و إذا رأى مجلساً من مجالس الباطل هجره و اجتنبه ، قال تعالى في وصف عباده المتقين ( و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ) صدق الله العظيم .