جاء جبريل عليه السّلام إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوماً يسأله عن بعض أمور الدّين والعقيدة، وكلّما أجابه النّبي الكريم عن سؤال من الأسئلة قال له صدقت، فتعجّب صحابة رسول الله من حال هذا الرّجل وكيف يقوم بسؤال نبي الله الكريم ثمّ يقول له صدقت، وقد أخبر النّبي أصحابه عن هويّة هذا الرّجل وأنّه جبريل عليه السّلام وأنّه جاء ليعلّم النّاس دينهم، وقد كانت أسئلة جبريل تدور حول مراتب الدّين وأركانه وأوّلها الإسلام وأركانه الخمسة، ثمّ الإيمان وأركانه السّتة، ثمّ مرتبة الإحسان العظيمة وركنها هو أن تعبد الله تعالى وكأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك.
وإنّ مرتبة الأحسان لا يصلها إلى الصّالحون الذين يستشعرون معيّة الله تعالى لهم على كلّ حال، فتراهم إذا كانوا بين النّاس لم يدخل النّفاق والرّياء إلى قلوبهم، فمحبّة الله تعالى وطلب رضوانه وحده قد استولت على قلوبهم، وهم إلى جانب ذلك إذا خلوا بأنفسهم مع الله تعالى وجدتهم أكثر النّاس خشوعاً، وأغزرهم دمعة، فهم يعشقون الخلوة مع الله تعالى ويستشعرون لذّة مناجاته في قلوبهم فتغنيهم عن العالمين.
وقد ذكر الله تعالى في محكم التّنزيل حال عددٍ من المحسنين، فالذي ينفق أمواله في سبيل الله تعالى على الفقراء والمحتاجين هو من المحسنين، وكذلك من يعفو عن النّاس ويكظم غيظه إذا أغضبه أحدهم يعدّ من المحسنين، كما عدّ الله تعالى معاملة الوالدين في كبرهما بالمعروف والقول الحسن وتعاهدهما بالرّعاية والاهتمام نوعاً من أنواع الإحسان، ومن بين وجوه الإحسان كذلك أن يحسن الإنسان معاملته لجاره فلا يجد منه ما يكره، وإنّ لفظ الإحسان يشتمل على كلّ عمل يحبّه النّاس وكلّ خلقٍ كريمٍ يبتغي فيه الإنسان الله والدّار الآخرة.
وقد بيّن الله تعالى أنّ جزاء الإحسان هو الإحسان، فمن أحسن النّاس إليه وجب عليه أن يردّ عليهم إحسانهم بكلّ طيّب من القول والفعل، وكذلك المسلم حين يحسن في عمله وقوله فتراه يعمل الطّاعات ويتقرّب إلى الله تعالى بها، ويجتنب المعاصي والنّواهي التي نهى الله تعالى عنها، وهو في ذلك يعبد الله تعالى وكأنّه يراه رأي العين، وهذا قمّة الإيمان وأعلى مراتبه، والتي لا يكون جزاؤها عند الله تعالى إلّا جزاء الحسنى وهي ما وعد الله تعالى عباده المتّقين من جنّات النّعيم التي ينعمون فيها فلا يبأسون خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون.