مدينة القسطنطينية
إنّه من الجميل أن يكون حديثنا في موضوع هنا عن شيء قد تعطر بأنّه ذُكر على لسان حبيبنا المصطفى الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: "لتفتحن القسطنطينية على يد رجل، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش". نعم تلك هي نبؤة رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلّم عن تلك المدينة والتي تستحق أن يقال عنها العظيمة، نعم عظيمة، لماذا؟ للكثير الكثير، فهي ليست كأي مدينة فتحها قادة المسلمين أو استولى عليها جيشٌ واحدٌ من الجيوش العالمية المختلفة، فلنبحر قليلاً في تاريخها وتسلسل الزمان عبرها.
الأصل والتسمية
مدينة القسطنطينية هي مدينة في الأصل كانت تابعة لمنطقة بيزنطيم والتي تضمها الدولة أو الإمبراطورية الرومانية، فبقيت على ذلك إلى أن جاء حاكم الإمبراطورية ومؤسسها الإمبراطور "قسطنطين الكبير"، فأسماها على اسمه ب "القسطنطينية"، وجعلها عاصمة لدولته البيزنطية "الرومانية"، ذلك عام 330م، ومنذ تلك البداية لتلك المدينة، وهي تعتبر العاصمة الأكثر ازدهاراً على مدى السنوات السابقة للإمبراطورية، حيث كانت مقراً جامعاً لكل مناحي الحياة على اختلافها، وتنوعها، فقد ضمت جانب العلم والمعرفة وذلك باحتوائها على جامعة القسطنطينية، ومكتبة القسطنطينية، وجانب الفنون حيث المباني الهائلة مثل كنيسة القديسة صوفيا، والبوابة الذهبية، والمميّزة بنقوشها ومشغولاتها الجذابة، وجانب الأدب المتمثّل في الشعر وغيره، وجانب الفلسفة وعلومها وعُلًّامها. توالت الإمبراطوريات والقوى الحاكمة على تاريخ القسطنطينية، بعد ذلك ولسنوات عدة، حيث مرت عليها كل من:
- الإمبراطورية الرومانية الشرقية (330_395م).
- الإمبراطورية البيزنطية المستقلة ( 395_1453م).
- الدولة العثمانية "الخلافة الإسلامية" (1453م).
بقيت باسمها هذا إلى أن فتحها المسلمون في عهد الخلافة العثمانية على يد القائد محمد الثاني _ محمد الفاتح_ سنة 1453م، حيث تغّير اسمها من "القسطنطينية" إلى "إسلام بول" والتي تعني أرض الاسلام أو "الأستانة"، ومع توالي الأزمان وتعاطف ساكنيها واختلاف أصولهم فإنّ اسمها تغيّر إلى إستامبول، ثم أخيراً إلى إسطنبول، وذلك بعد مجيء "مصطفى كمال أتاتورك" وهي المعروفة في يومنا هذا بتركيا الحديثة.
المحاولات الحثيثة لفتحها
لم تكن مدينة القسطنطينية بالمدينة السهلة أو التي من السهل الوصول إليها والاستيلاء على ممتلكاتها، أو حتّى اختراق حصونها، فقد كانت منيعة ومحمية بشكلٍ قوي جداً، لذا كان من الصعب فتحها فحينما عرف المسلمون بنبؤة فتحها على يد أحد الرجال المسلمين القادة، وعن عظيم شأن من سيقوم بذلك، تهافتوا جميعاً وفي كل فرصة يسمح لهم فيها باختراقها ومحاولة الدخول إليها ورفع راية الإسلام فيها، حيث حصل ذلك ما يقارب الإحدى عشةر مرة كان أول من قام بتلك المحاولة هو "معاوية بن أبي سفيان" خلال فترة خلافة الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتبعه ابنه زيد بن معاوية بعد حوالي العشر سنوات، وفي خلافة معاوية بن أبي سفيان قام معاوية بن أوس بمحاصرتها، وفي زمن خلافة عمر بن عبد العزيز فقد تولّى مسلمة بن عبد الملك مهمة محاصرتها، أيضاً وخلال الخلافة العباسية قام أحد القادة بمحاصرتها. فلم يتوانوا أبداً عن محاولات فتحها والدخول إليها.
فتحها على يد المسلمين
لعلّ الناظر في تاريخها وفي عدد مرات المحاولة في السيطرة عليها يعي تماماً ما مدى جبروتها الصلب والذي لم يكن بالساهل، بل احتاج ذلك لتخطيط طويل ودقيق ومرتب ومنظم، وقائم على الحنكة والذكاء الحربي، كان ذلك كله متوافراً في القائد الرائع محمد الفاتحأو _ محمد الثاني_، الملك الجليل، القائد المغوار، المُقدِم الشجاع، والمتوكل على الله الواثق كل الثقة به. فقد وضع هذا الهدف نصب عينيه وهو حديث السن أي في بداية شبابه -اثنان وعشرون عاماً- وأصبح يركز على تحقيق هذا الهدف، فقد بحث وخطط ونظم ورتب وجهز وأعدّ، واستعان إلى أن حقق ذلك الحلم، فتح القسطنطينية.
استعدادات الفاتح وتجهيزاته
اتّبع القائد محمد الفاتح أسلوب وخطة طويلة الأمد، كانت تعتمد على أكثر من عامل مهم، وكل منها يلعب دوراً هاماً في مساعدته وكذلك حمايته وجيشه من أي خطر قد يلحق بهم أثناء انقضاضهم على المدينة، هذه العوامل والتي عمل عليها كلٌ على حدة، وبتركيز ودقة هي:
- الجيش: اهتم محمد الفاتح بتجهيز الجيش من حيث زيادة الأعداد المقاتلة فيه، وتكثيف تدريب العناصر على مستوى عالٍ، كذلك قام بتزويده بالعتاد والأسلحة المطلوبة والتدريب على استخدامها بشكل ممتاز.
- الحدود: انتبه القائد الفاتح لهذه النقطة فقد أخذ منه تأمين الحدود، والتي من شأنها حماية جيشه، وصد قذائف الروم إليه وتلقيها، بالإضافة إلى منع الإمدادات التي قد تصل من الدول أو الممالك المجاورة لها، فقد أمر ببناء قلعة ضخمة على شاطئ مضيق البوسفور، وقد احتاج بناؤها إلى الثلاثة أشهر، وأسماها بقلعة الروم.
- الأسطول: لم يغب عن بال محمد الفاتح هذا العنصر الرئيسي في اقتحام ومحاصرة القسطنطينينة، ألا وهو الأسطول فقد عزم على تقويته وإمداده بعدد هائل من السفن والذي قارب الأربعمائة سفينة بحرية، ومزودة أيضاً بالأسلحة التي تحتاجها.
- مدافع المنجنيق: لعلها تعتبر جزءاً من تجهيز الجيش والعتاد، لكن أفرد لها حديثاً خاصاً لما لها من دور رئيسي في تحقيق النصر المؤزر في الفتح، فقد كانت مدافع عظيمة، مستحدثة من قبل الفاتح، وهي التي فاجأت سكان القسطنطينية بقدرتها الهائلة وصوتها المدوي المخيف.
- التعاون والتشارك، وروح العمل الجماعي: نعم فقد تشارك القائد الفاتح في كل طرق وخطوات العمل من تجهيزٍ وبناءٍ وإعدادٍ وتدريبٍ، لم يكن يجلس ينظر ويتابع فقط، أ, يلقي الأوامر والتعليمات، بل كان واحداً من الجنود ولعل هذا من أقوى الما هى اسباب التي تسببت في النصر وسرعة العمل وإتمامه على وجه الرضى.
بعد ذلك قام محمد الفاتح بالاقتحام، واستطاع أن يدخلها، ويرفع راية الإسلام فيها، وقتها جرت مفاوضات كثيرة بينه وبين الروم فيها، وظهر بذلك عنادهم، ولكن قائدنا هنا التزم بالسماحة والكرم، واللباقة فلم يزجرهم، حيث احترم أسراهم، وأعطي الجميع الحرية العبادية لهم مهما كانت، فهذا ما علمه إياه دينه.
من الجدير بالذكر أنّ ما تتميّز به أيضاً تلك المدينة والتي تعرف بتركيا الحديثة اليوم هي الوحيدة في العالم التي تقع على حدود قارتين، قارة آسيا، وقارة أوروبا فهي تقع على مضيق البوسفور. وهي أيضأً تعد الآن في هذا العصر من أهم وأعظم دول أوروبا، وبوابتها إلى دول الشرق.