جاء الإسلام نورًا وهدىً للناس، يهديهم سبيل الخير في الدنيا والآخرة، ويدفع عنهم شرور هذه الحياة وعذاب الآخرة، وقد تضمنت تشريعات الإسلام كل شيء من العقائد التي تتمثل في الإيمان والشرك والردة والكفر، ومن التشريعات الفقهية والمعاملات والفرائض التي تمثل هوية المسلم وشكلها.
ولمّا جاء الإسلام لم يأتِ بكل العقائد والتشريعات مرة واحدة؛ لأنّه جاء لعصرٍ انتشرت فيه براثن الأصنام والشرك بكل أشكاله، فأخذ الإسلام في أحكامه تدرجًا واضحًا، وأبعادًا زمنية حكيمة لكل تشريع كان ينزل على المسلمين آنذاك؛ وذلك لأنّ لكل فترة في حياتهم خصوصية تختلف عن غيرها، ومنها ما ينطبق على حديثي الإسلام في عصرنا هذا، فلا نُشِقّ عليهم بالمهام الدينية والطاعات منذ إعلان الشهادتين؛ لأنّ طبيعة الإسلام هي اليسر وليس العسر، ومبدأه هو مبدأ فطري إنساني، فالإنسان طبعه التعوّد، ويتعود على الشيء بالتدرج فيه، يبدأ بشيء صغيرٍ حتّى إذا ما أتقنه ينتقل لشيء أكبر منه وهكذا، وعلى هذا المبدأ قامت تشريعات الإسلام المختلفة.
وهذا ما حدث عندما نزلت فريضة الصيام على المسلمين، فقد فرض الصيام بعد خمسة عشر سنة أو أكثر من بعثة الرسول عليه الصلاة السلام، يعني بعد خمسة عشر عامًا ممن نطقوا بالشهادة من أوائل المسلمين، وإنّ لهذا التوقيت حكمة، فعندما بعث النبي عليه الصلاة السلام، بدأ الناس يتمايزون بين مؤمن بما يقوله النبي عليه الصلاة السلام وبين معارض له، وهناك من التبست عليه الأمور، فتارة يميل للجاهلية وتعصب القبلية، وتارة يميل للهدى والفطرة الربانية، فكم كانت من فترة عصيبة على الجميع، فالذي دخل الإسلام حُورب، والذي بقي متأرجح الفكر احتاج لوقتٍ كبير حتى يتيقن من طريقه؛ فكيف لو جاء الإسلام بالتشريعات من أول البعثة ما كان ليدخل في الإسلام أحد، ولكنّه كما أسلفنا دين يسرٍ وحكمة.
فرضت الصلاة في السنة العاشرة من البعثة بعد أن رسخت عقيدة التوحيد والولاء والبراء في قلوب المسلمين، بدأت قلوبهم تميلُ لأداء العبادة لخالقهم؛ لإعطاء الدليل الواضح على إسلامهم وامتثالهم لأمر الله عز وجل، وما إن رَسَخت الفريضة الأولى وعمود الدين في حياة المسلمين وبعد خمس سنواتٍ من بعد فريضة الصلاة فرض الصيام، فقد كانت فريضة الصيام من التشريعات لا العقائد، بينما كانت الصلاة عقيدة، حيث فرض الصيام في المدينة المنورة، حين قامت دولة الإسلام وتأصل في قلوب المسلمين، وأصبح الخطاب الرباني الموجّه إليهم يبدأ بـ (يا أيّها الذين ءامنوا)، وكانت سنة فرض الصيام هي الثانية من الهجرة.
حتّى فريضة الصيام كانت بتدرج ولم تفرض فريضة تامة وكاملة من أولها، بل فرضت كفريضة اختيارية في بادئ الأمر على أن يكفّر من لم يستطع الصيام وفقًا للآية القرآنية "يا أيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أيامًا معدودات فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدةٌ من أيامٍ أخر، وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرًا لكم إن كنتم تعلمون"
فكان الصيام بين التخيير في المرحلة الأولى مع الفدية، ثم في المرحلة الثانية الإلزام والتحتيم إلّا لمن كان مريضًا أو على سفر.
نِعم الدين هو الإسلام، ونعم التشريعات هي شرعه، فيه كل الخير لو وَعيناهُ تمامًا.