لم يَرَ التاريخُ من قبل ولا من بعد ما يشبُه الحجاج بن يوسف الثقفي في شخصيته المتناقضة، وشدتِه وقسوتِه في الحكم، وسفكِه لدماء مواطني الدولة، فقد ولّاه عبد الملك بن مروان لقتال عبد الله بن الزبير، فذهب الحجاج لقتله، فأرداه قتيلاً في الحجاز، ثم ولّاه عبد الملك المدينة والطائف ومكة، ثم امتدت إمارته إلى العراق، ولقّبَ بالمبيد، وامتدّ حكمه لعشرين سنة .
وُلد الحجاج بن يوسف الثقفي عام 660م، وتوفي عام 714م، نشأ في الطائف، وتعلّم القرآن والحديث والفصاحة، وحين شبّ اشتغل مع أبيه معلمًا للصّبيان، يعلمُهم القرآن والسنة والحديث، وفقه الدين، لكنه لم يكن راضياً عن مهمته هذه، فذهب إلى الشام كي يبدأ طموحَه السياسي، والتحقَ بشرطةِ الإمارة، ولمَس بالشرطة ضعفَ التنظيم، والإهمال، وعدم الطاعة، فأوعزَ بذلك إلى رئيسهم (روح بن زنباع)، الذي أُعجب بحماستِه وقربه من عبد الملك بن مروان، الذي أعلى مرتبته، وعينه قائداً على الشرطة، وعاقب المهملين بالحبس، وأسرف في العقوبة .
وذهب إلى حربِ مكة لمقاتلة عبدالله بن زبير، فقتله، وولّاه -فيما بعد- عبد الملك بن مروان مكة والحجاز، ولم يكن على وفاقٍ مع أهل الحجاز، فاستغلُّوا قدوم عبد الملك بن مروان عام 75هـ، وألقفوه شكواهم من سوء الحجاج فعزله، وولّاه على العراق .
بقي الحجاج واليًا على العراق لعشرين سنة، ومات فيها، وكانت العراق يومئذٍ عراقين: الأولى للعرب، والثانية للعجم، وعندما دخلها حلّ بالكوفة، وجمع الناس في المسجد، وحل عمامته الحمراء، وقال خطبته الشهيرة، التي تبتدئ ببيت الشعر : " أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني"، وبيّن في خطبته سياسته الشديدة، القائمة على قطع الرؤوس والقتل، فارتعب أهل العراق، وعملوا على طاعته، وكانت اليمن والبحرين والحجاز وخرسان تتبعه، وقاتل الخوارج، والذين ثاروا على الدولة الأموية، فغلبهم في كلّ الحروب، وكان قد بنى مدينة واسط، وجعلها عاصمته .
وفي عام 80 هجري أرسل الحجاج واليًا على سخستان يسمى (ثورة بن الأشعث)، ثار عليه بمجرد وصوله وحكمه لسخستان، فثارت الحروب بينهما، وانتهت بانتحار الأشعث بإلقائه بنفسه من فوق قصر ، وعندما مات عبد الملك بن مروان، وتولى ابنه الوليد، فأقر الحجاج كل ما أقره عليه أبوه، وقربه منه لدرجةٍ كبيرة، واعتمد عليه بشكلٍ أساسي، وأصيب الحجاج في آخرِ عمره بما يُرجّح أن يكون (سرطان المعدة)، وكان ذلك في شهر رمضان، فتوفي في العشر الأخير منه بمدينة واسط للعام 95 هــ، وكان آخر ما قاله دعاء : "اللهم اغفر لي فإنهم يزعمون، أنك لا تفعل" .
وقال الأصمعي إنه حين حضرت الوفاة للحجاج أنشأ يقول :
يا ربّ، قد حلف الأعداءُ واجتهدوا *** بأنني رجلٌ من ساكني النار
أيحلفون على عمياء؟ ويحهم *** ما علمهم بكريمِ العفوِ غفار؟
تفجّع عليه الوليد بن عبد الملك، وأتى إليه الناس من كلّ الأمصار يعزون بوفاته، وهكذا ودع التاريخ رجلٌ اختلفت عليه الآراء ما بين الشدة والخبث والدهاء والمكر، والإحسان وحب القرآن وتعظيمه .