تتخطّى كل الألوان والأزمنة ببهائها، ترسمُ الأملَ على هيئةِ ضوءٍ، وتخيط من الفجر البهيّ سلال المحبة للعالم كله.

إنها الشمس التي لا يمكن للكون أن يرى النور إلا بضيائها، ولا يشرق على الأرض شعاعٌ إلا وقد استمدّ منها سرّه الأزليّ؛ فكيف لا يُحمد خالقٌ صوّرَها بهذا المنظر المتجدّد كل صباح؟ وكيف لا يُشكر الصانع الجليل الذي جعلها تُطلّ على عوالمِ الإنسان لتمنحه طاقة تفاؤلٍ لا تنفد؟
إنها النجم المركزي للمجموعة الشمسية.

كُرةٌ مُلتهبة، تُعادل في قُطرها ضعف حجم الكرة الأرضية بأكثر من مئة مرة، وتدور الأرض حولها بمدار بيضوي، يستغرق لكي يكتمل سنةً كاملة، وهل يكونُ سبب شروق الشمس وغروبها إلا دوران الأرض حول محورها الوهميّ من الغرب إلى الشرق؟ إن هذا ما يجعل فكرة الثباتِ بعيدة عن المنال، وكأن الكون يحثُّ دومًا على الحركة والانتقال، ويؤسس بالتغيير لكل ما هو جدير بالاستمرارية.

الحركة والسعي هي ما تنطق به أكبر الكائناتِ وأجلّها، وأصغر الكائنات وأضعفُها، فكل كائنٍ يريدُ أن يعيش وينمو بصورةٍ طبيعية سيتّجه بخطواته إلى كسر الرّكود وتحقيق الأثر في نفسه والعالم الخارجي.

وصف شروق الشمس

لا أحد يستطيع أن يحدد نقطة البدء، أهي من عند الليل أم من عند النهار؟ ولكن ليَكُن الليلُ بدايةً حين نريدُ الحديث عن النهايات السعيدة.

يأتي الليل الحزين، يوزّع تذاكِر الدّمع على الذين فقدوا أحبّتهم في لحظةِ كرب، أو أضناهم العيش بظروفٍ لاذعة، فيسمحُ لهم بالدخول إلى عالمه الطويل، يبثّون له شجونهم، يتألمون ويسردون له كل ما حدث ذات فقدٍ، فيتألّم معهم، ويدثّر حُزنهم بسواده، ويلبِسُهم عباءةَ المناجاةِ، ويقدّم لهم نصيحة رجاء السماء، ويرجو الشمس ألا تطيل الغياب. 
لا تخيّب الشمس أمنية الليل الذي ترجّاها ألا تُطيلَ غيابها في السواد، فيتفتّقُ الشفق، وتبدأ من جديد بالبزوغ من جهة الشرق، معلنةً أملًا جديدًا عسى أن يتحقق لمن كابد الدمع طوال الليل الحزين.

بخفّةِ النسيم تدقُّ على شرفاتِ المنازل، وبرائحة النعناع تنعشُ القلب بجدائلها الذهبية التي تتمايل بين الفجر والشروق، لا يسمع صوتها إلا قلبٌ يخفق بالحبّ ويوزّعه على الملأ بلا مقابل، ولا يشم رائحتها إلا عقلٌ متفتّح ينتظر الإصباح حتى يستزيد من تغذية الفكر، ولا يلامسُ جدائلها الذهبية إلا روحٌ تفهم حقيقة الكائنات وتعلم ماذا تعني النجوى.

تبدأ ذُكاء الذهبيّة بالبزوغ بُعيد الفجر، وكأنها عروس تجلّت بعد صبرٍ على ظُلمة الليل ووحدة السهارى، تحارُ كيف توزع البسمة على شفاه المتأملين، فتمنح عيونهم أملًا يقول بوجه كل بؤس: "صباحُ الخير، أيها الكون الذي لا بدّ أن يكون جميلًا لسببٍ ما"، وتكملُ الصعود إلى منصّة السماء وقت الضّحى، حيثُ يبدأ الناس بالعمل على سر ابتسامتهم التي كانت بعيد الفجر مجهولة الأسباب، يسعونَ لها ويجتهدون في نيلها، يبذلون في سبيلها على وجوه أطفالهم كلّ نفيس، وعلى وجوه أحبابهم كلَّ عطاء.

واستراح البعضُ في وقت الظهيرة، احتدَّتْ كأنّ غضبًا قد اشتعل على مُحيّاها، ولهيبًا من الشوق قد أُضرِمَ في القلب، توقظُ به صبر الناس الساعية إلى معاشها، وتعلّمهم أن السعي لا بد فيه من العناء، ولولا العناء لما كان للراحة في آخر النهار لذّة ولا طعم. 
وبعد الأصيل تهمُّ الشمس بالرحيل، فتستجمع قِواها المتوزعة في نورها المنشور في الأكوان، وتطفئ إشعاعه، وتحاول الانسحاب بتهدئة ضجيجِ ألوانها الصاخبة، فيتدرّج اللون من الأصفر الفاقع المحرق إلى اللون الأرجوانيّ، المُشرب ببعض الاحمرار، وتبدأ السماء بإغماضِ عينيها، تودّع الصباح الرّحيب الذي به انتشر الناس في مساعيهم وطرقاتهم، وتلوّح للأفق البعيد أن وقت الرقاد لا بدّ أن يحين، وأننا على موعد مع اللقاء في الغد، إذ لا يمكنُ تصوّر الغد دون إشراقٍ إلا مع تصور الموت.

ماذا يعني لك شروق الشمس؟

إذا ما وقفتُ على سرّها تمنّعتْ عن الإفصاحِ بمزيدٍ من الدلال والجمال، فإن قلتُ إنها تعني لي البداية فقد قصّرتُ في منحها صفة الدوام والتجدّد، وإن منحتها صفة الأمل قصّرتُ في حق البهاء، فلا يدري الناظر في معناها من أين تبدأ وأين تنتهي هذه الشمس البهيّة!
لستُ وحيدًا في حيرتي! فالقمر أيضًا لا يستطيع أن يمنحها صفةً تفيها حقّها، فهو الذي يمتصُّ منها نورهُ ويظهر به إلى الخلق في منتصف الليل الحالك، فيُضيء عتمة الناس بواسطة شعاعها المختبئ وراء ظهره، وينتظرها حتى تطلّ على المكان الذي هو فيه، فيذهب إلى الطرف المقابل حيث لا تكون هي، ليُضيء عوضًا عنها في سواد ليل تلك الأرض، وبهذا لا يتمكن من مقابلتها، مع أنه المستفيد الأول من وجودها.

 سر الشمس مثل سر النار، تقومُ بها حاجات الناس ويستفيد منها كل كائن حي، ولا يمكنه الاقتراب منها، أو لمسها، أو إدراك كُنهِها سوى أنها كرة مُلتهبة.

ترمزُ في نظر المتأمّل إلى كل ما يحتاج الاشتعال، كالمشاعر والطاقة والحياة، وتُلخّص فيزيائية الحركة باستمرارية الظهور والغياب، وتلحّ في طلبِ المجد إذ تصعد إلى أعلى علياء السماء.

مهما قال عنها الأدباء والشعراء لا بدّ أن يقصّروا، ولكنهم لم يتوانوا عن بيان جمالها واستخدامها في التشابيهِ التي يجمّلون بها حبيباتِهم، أو التي يرفعون بها قدر ممدوحيهم، أو يرمزون بها إلى العلا التي لا تُنال، بل تُعطي كل من يلوذ بها نصيبه من العافية، حتى قال عنها الحكماء في قديم الزمان أنها بُرءٌ من كل الأسقام حين تدخل أشعّتها إلى المنازل وتلامس أجساد الناس، فعبّروا عن ذلك بقولهم: "البيت الذي تدخله الشمس لا يدخله طبيب".

ومما قاله بعض الشعراء في وصف نورها وبهائه تشبيه ابن الرومي بأنها عروس تُزفّ إلى القمر:[١]
ولاحَ سعدٌ وخَبا نَحسُ
فهنا يحاول الشاعر أن يمزج بين شروق الشمس، أو زفافها وبين حلول السعد وذهاب البؤس والشقاء، وتتضح فكرة الأمل التي ترمز لها الشمس في رؤى الإنسان العربي، وتتجلى صورة الشمس البهية بشيء من الفرح الذي يرسمه ميلاد الأيام القادمة.

ولربما يرمز الشاعر هنا أيضًا إلى أمور فلكية وعلوم قد يعلم شيئًا منها، فالشمس بوصفها جزءًا من المجموعة الشمسية، تحمل في نظر الشاعر صفاتٍ تخوّلها لتكون كوكبَ سعد، فقد قسّم العلماء الكواكب إلى عدة أقسام وفق محاور كثيرة، كان السعد الأكبر والأصغر وكذلك النحس الأكبر والأصغر من ضمنها.

ويقول الأخطل الصغير في رثاء الشهيد فوزي الغزّي تعبيرًا عن حزنه وألمه: [٢]
ظلل الشمس مع ريحان ووريس
يا شمس بإذن من عبد شمس
هنا يتضح أن الشمس تستخدم كرمز للمجد والشرف. أراد الشاعر أن يضيف الخلود إلى رثائه. لم يجد معنى أوضح وأنسب من الشمس ، بل أن الشمس ترمز إلى المجد ، كما يرمز لونها الأصفر إلى القوة والجرأة ، فيخلط الشاعر هذا الذهب بالأخضر ، المشتق من نباتات روسية ، يرمز إلى النقاء والنقاء ، لأن الشهيد بذل كل ما في وسعه لبلاده من أجل حياة كريمة.

وفوق كل ذلك ، أضاف رائحة الريحان التي ملأت المحيط ، وملأت هواء مسقط رأسه بالفخر والفخر ، وسمح للشاعر برسم نذالة تحكي قصة هذا الشهيد في أوقات مختلفة و الأماكن ، ويشهد على ذاكرته بأشكال مدهشة ومعنى الانغماس في الجمال.

الشاعر حافظ ابراهيم يصف الطيار العثماني فتحي بك ، مقارنا الحمام الذي رآه في الرحلة بـ: [3]
من هنا يتضح دور الشمس ، مما يجعلها أقرب إلى كل ما يتعلق بالقداسة. من كوابيس الملائكة مع بعضهم البعض.

ما سحر هذا الوصف للشاعر حافظ إبراهيم في هذه الصورة؟ !
من هذا يتضح أن للشمس أهمية أساسية لا تقل عن كونها جزءًا لا يتجزأ من الكون كله ، فالله تبارك وتعالى ، وقد خلقها وأتقن صنعها بهذه الطريقة لا يستطيع العقل أن يتخيل دقتها ، واندهاشها ، والاتساق ، والعلم لا يمكن أن يصل إلى حدوده. تتجدد النظريات والدراسات حول الشمس باستمرار ، ولا تنتهي أبدًا ، لأن الشمس تتجدد أيضًا كل يوم بعد الفجر بإعطائها ، حتى نهاية كل هذا الوجود.