الغزل
يختصّ الغزل بتعداد صفات المحبوب الجميلة بهدف التودّد إليه. يُعرف لفظاً فقد وردت في المعجم من الفعل غزل عزلاً أي شُغِفَ بمحادثة النساء والتودّد إليهن. [?] أما اصطلاحاً، فهو نوع من أنواع الشعر العربي، يمتاز بصدق العاطفة وقوّتها، تنمو عواطف الشاعر فيعبّر عن مكابدته لها، وسيطرتها عليه، كما يبكي ألم الفراق والبعد عن محبوبته، مُركّزاً على مشاعره بعيداً عن الجمال الحسّي الجسدي. [?]
نشأة الغزل العذري
يُنسب الغزل العذري إلى قوم بني عُذرة الذين سكنوا وادي القرى في شمال المدينة المنورة، ورُوي أنَّ أحدَهم سأل أعرابياً: ممَّن الفتى؟ قال: من قوم إذا عشقوا ماتوا. أمّا بدايات هذا الغزل ترجع إلى العصر الجاهلي التي نراها واضحة في القصائد الشعرية التي وصلتنا، إلّا أنّه ترعرع وبرز، وتم تحديد ملامحه الشعرية في العصر الإسلامي وأوائل العصر الأمويّ، ورجع الأمر في ظهوره أن الإسلام هذّب الألفاظ الشعرية، ورفض الوصف الفاحش في الشعر كما في غيره، فاتّجه الشعراء لوصف عذابات حبّهم بالحديث عن لوعة الفراق وألم الاشتياق، وصدّ المحبوبة، ليربط كل هذه الآلام بالأمل يوماً أن يلين قلبها وتصله، فيذكّر الشاعر حبيبته كيف نشآ معاً في بيت واحد وأن لا سبب لديها للصدّ. [?]
خصائص الشعر العذري
امتاز الشعر العذري عن الغزل الصريح بأمور كثيرة أهمّها ما يأتي: [?]
- الاقتصار على محبوبةٍ واحدة: فلم يُعرف الشاعر العذريّ بتعدّد علاقاته بالنساء كما في العصر الجاهلي أمثال امرئ القيس، بل كان يحيا حياته كلّها مُقتصراص على محبوبة واحدة لا يتركها، سواء انتهى أمرهما بالزواج أم لا.
- وحدة الموضوع: خرجت القصيدة الغزلية على النمط الذي كان متعارفاً عليه في العصر الجاهلي، فلم تعد تبدأ بالمقدّمة الطلليّة، ثم تنتقل إلى الفخر والمدح، وتنتهي بالموضوع الرئيس للقيدة، بل كانت تتحدّث عن حبّ الشاعر وعاواطفه ومشاعره، واصفاً ألمه وشوقه ولوعة انتظاره، من أول بيت في القصيدة حتى آخرها.
- بساطة المعاني والسهولة والوضوح: فالأفكار التي تنبع من القلب لا تحتاج إلى صنعة وتعقيد وإعمال الفكر، فهي تعبّر عمّا يُحسّ به الشاعر وما يؤلمه.
- الصدق: لأن العاطفة الصادقة مرتبة بالبساطة والوضو؛ فمن يقتصر على محبوبة واحدة طوال الحياة لابد أن يكون صادقاً في مشاعره.
- العفّة: ابتعد الشاعر العذري عن الوصف الحسّي كما في الغزل الصريح، واهتمّ بما يشعر به اكثر من اهتمامه بجمال محبوبته، فهالحب لديه عاطفة قويّة صادقة تتجاوز الحاجة الحسّية والجمال الجسدي.
- الحزن والتشاؤم: أغلب قصص الشعراء العذريين لم تنته بزواجهم من محبوباتهم، وتمّت معاقبة الشاعر على ذكره محبوبته في شعره بمنعه من زواجهما، ولهذا، نجد طابع الشؤم مسيطراً على الطابع العام للقصيدة الغزلية.
أبرز شعراء الغزل العذري
الآتي أبرز شعراء الغزل العذري:
قيس بن ذريح
من بني كنانة، كان أخ الإمام الحسين بالرضاعة، عُرف عنه حبّه للبنى الكعبية حتّى لُقّب باسمها واصبح يُعرف باسم قيس لبنى، والتي كانت تحبّه أيضاً، فلمّا عرف والدها منعهما من الزواج، لكن توسّط الإمام الحسين جعل والدها يقبل بالأمر.
تزوّج فيس ولبنى إلا أنّهما لم يُرزقا بالأولاد، فأجبر ذريح ابنه قيساً بتطليقها، الأمر الذي ندم عليه فيما بعد وكان سبباً ان يفقد عقله، فهام في الصحراء على وجهه دون هدى، وكان يرى طيفها أينما توجّه، إلى أن اشتكى أبوها للخليفة معاوية الذي أهدر دمه، وقيل أن قيساً أُخبر بأنّها تزوّجت غيره بالإكراه، فتوجّه إلى مسكنها ليجدها قد رحلت برفقة زوجها الجديد، إلّا أنّ سوء حالته دعت جماعة من قريش التوسّط عند زوج لبنى لتطليقها فتعود إلى قيس، فوافق، وعاشا معاً حتّى مرضت لبنى وتوفّيت، وما لبث أن مرض بعدها واشتدّ مرضه حتّى مات على قبرها ودُفِن إلى جانبها. [?]
القصيدة الآتية من جميل ما قاله الشاعر في محبوبته:
أيا كبداً طارتْ صُدُوعاً نَوافذاً
ويا حَسرتا، ماذا يُغَلغَلُ في القلبِ؟
فأُقْسِمُ ما عُمْشُ العُيُونِ شَوَارِفٌ
رَوائمُ بَوٍّ حائماتٌ على سَقبِ
تَشممنهُ لو يستطعنَ ارتشفنهُ
إذا سُفْنَهُ يَزْدَدْنَ نَكْباً على نَكْبِ
رئمنَ فما تنحاشُ منهنَّ شارِفٌ
وَحَالَفْنَ حَبْساً في المُحُولِ وفي الجَدْبِ
بأوجدَ مِنِّي يومَ ولتْ حُمُولُهَا
وَقَدْ طلعت أُوْلَى الرِّكابِ مِنَ النَّقْبِ
وَكُلُّ مُلِمّاتِ الزَّمَانِ وَجَدْتُها
سِوَى فُرْقَةِ الأحْبَابِ هَيِّنَةَ الخَطْبِ
إذا ?فْتَلَتَتْ مِنْكَ النَّوَى ذَا مَوَدَّة ٍ
حَبِيباً بِتَصْدَاعٍ مِنَ البَيْنِ ذي شَعْبِ
أذاقَتْكَ مُرَّ العَيْشِ أو مُتَّ حَسْرَة ً
كما مَاتَ مَسْقِيُّ الضَّياحِ على أَلْبِ
وَقلتُ لِقَلْبِي حينَ لَجَّ بيَ الهوَى
وكلفني ما لا يُطِيقُ مِنَ الُحبِّ:
ألا أيُّها القَلْبُ الذي قادَهُ الهَوَى
أفِقْ لا أَقَرَّ اللهُ عينك مِنَ قَلْبِ.
جميل بن معمَر
من قبيلة عُذرة، عُرف باسم جميل بثينة بسبب حبّه لابنة عمّه بثينة حتّى صار يُعرف باسم جميل بثينة. أحبّ بثينة منذ الصغر، إذ ضرَبت بثينة صغار ماشيته وهي تسقي ماشيتها من النهر، فشتمها فشتمته، فأُعجب بها من شتائمها.
لما اشتدّ الحب به خطبها من أهلها، إلا أنّ ذكره لها في شعره كان سبب رفض والدها، وذلك خوفاً من العادات التي تمنع زواج من يذكر فتاة في شعره خوفاً من تأكيد علاقة سابقة بينهما قبل الزواج. الأمر الذي زاد من حب وشوق جميل، فزاد في وصفها في شعره، حتّى زُفّت إلى رجل آخر، إلا أنّه لم يتوقّف عن غزله بها، فشكاه والدها إلى والي المدينة مروان بن الحكم الذي أهدر دمه، فهرب جميل يهيم بين الصحارى والبلاد غلى أن انتهى به الأمر في مصر، فيموت من شدّة حبّه وقوّة عاطفته وصدقها. [?]
القصيدة الآتية من جميل ما نظمها جميل بثينة:
حلفتُ، لِكيما تَعلمِيني صادقاً
وللصدقُ خيرٌ في الأمرِ وأنجحُ
لتكليمُ يومٍ من بثينة َ واحدٍ
ألذُّ من الدنيا، لديّ وأملحُ
من الدهرِ لو أخلو بكُنّ، وإنما
أُعالِجُ قلباً طامحاً، حيثُ يطمحُ
ترى البزلَ يكرهنَ الرياحَ إذا جرتْ
وبثنةُ، إن هبتْ بها الريحُ تفرحُ
بذي أُشَرٍ، كالأقحُوانِ، يزينُه
ندى الطّلّ، إلاّ أنّهُ هو أملَح.
كُثيّر عزّة
كُثيّر بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر، من بقبيلة خزاعة، عُرف بحبّه لآل البيت، إلا أنذ ذلك لم يمنعه من أن يحظى بسمعة جيّدة بين الخلفاء الأمويين، فزارهم في قصورهم ومدحهم.
اشتُهر بحبّه لعزّة بنت جُميل من قبيلة صخر، وكنّاها بعدة ألقاب خوفاً على سمعتها، الأمر الذي دفع النقّاد إلى الاعتقاد بتعدّد علاقاته بالنساء، فزوّجوها لغيره، فسافر إلى مصر حيث كانت متغنّياً بها، معبّراً عن الألم الذي يجتاحه لفراقها. [?]
القصيدة الآتية من جميل ما نظمه في الغزل العذري:
جزتك الجوازي عن صديقك نضرة ً
وأدناك ربّي في الرّفيق المقرّبِ
فإنَّكَ لا يُعطي عليكَ ظَلامَة ً
عدوٌ،ولا تنأى عن المتقرِّبِ
وإنَّكَ مَا تَمْنَعْ فإنّكَ مانِعٌ
بحقٍّ، وما أعطيْتَ لم تَتَعَقَّبِ
متى تأتِهمْ يوماً من الَّدهر كُلِّهِ
تَجِدْهُمْ إلى فضْلٍ على النَّاسِ تُرتَبِ
كأنّهُمُ مِنْ وحْشِ جِنٍّ صَريمة ٌ
بعبقرَ لمّا وُجِّهتْ لم تغيَّبِ
إذا حُللُ العَصْبِ اليماني أجادها
أَكُفُّ أساتيذٌ على النَّسْجِ دُرَّب
أتاهُمْ بها الجاني فَرَاحوا، عليهِمُ
تَوَائِمُ مِنْ فضْفَاضِهِنَّ المُكَعَّبِ
لها طُررٌ تحتَ البنائقِ أُذنِبتْ
إلى مُرْهَفَاتِ الحَضْرَميّ المُعقرَبِ.